سورة الإسراء - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإسراء)


        


المعنى: واذكر إذ قلنا، وكذلك {إذ} [الإسراء: 60] في الآية المتقدمة: هي منصوبة بفعل مضمر، وقد تقدم في غير موضع ذكر خلق آدم وأمر السجود، واختلف في قوله {إلا إبليس} فقيل هو استثناء منقطع، لأن {إبليس} لم يكن من الملائكة، وقيل هو متصل لأن إبليس من الملائكة، وقوله {طيناً} يصح أن يكون تمييزاً، ويصح أن يكون حالاً، وقاس {إبليس} في هذه النازلة فأخطأ، وذلك أنه رأى الفضيلة لنفسه، من حيث رأى النار أفضل من الطين، وجهل أن الفضائل في الأشياء، إنما تكون حيث خصصها الله تعالى، ولا ينظر إلى أصولها. وذكر الطبري عن ابن عباس أن إبليس هو الذي أمره الله فأخذ من الأرض طينة آدم، والمشهور أنه ملك الموت، وكفر إبليس في أن جهل صفة العدل من الله تعالى، حين لحقته الأنفة، والكبر، وكان أصل ذلك الحسد، ولذلك قيل: إن أول ما عصي الله بالحسد، وظهر ذلك من إبليس، من قوله {أرأيتك هذا الذي كرمت علي} {أنا خير منه} [الأعراف: 11] حسبما ذكر الله في آية أخرى. فهذا هو النص بأن فعلك غير مستقيم، والكاف في قوله {أرأيتك} هي كاف خطاب ومبالغة في التنبيه، لا موضع لها من الإعراب، فهي زائدة، ومعنى أرأيت: أتأملت ونحوه، كأن المخاطب بها ينبه المخاطب ليستجمع لما ينصه عليه بعد، وقال سيبويه: هي بمعنى أخبرني، ومثل بقوله أرأيتك زيداً أبو من هو؟ وقاله الزجاج: في {آياتنا} [طه: 56] ولم يمثل، وقول سيبويه: صحيح حيث يكون بعدها استفهام كمثاله، وأما في هذه الآية، فهي كما قلت، وليست التي ذكر سيبويه رحمه الله، وقرأ ابن كثير {أخرتني} بياء في الوصل والوقف، وهذا هو الأصل، وليس هذا الموضع كالقافية التي يحسن فيها الحذف، كمثل قول الأعشى: [المتقارب]
فهل يمنعني ارتياد البلاد *** من حذر الموت أن يأتين
وقرأ نافع وأبو عمرو بالياء في الوصل وبحذفها في الوقف، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي {أخرتن} بحذف الياء في الوصل والوقوف، وهذا تشبيه بياء قاض ونحوه، لكونها ياء متطرقة قبلها كسرة، ومنه قوله تعالى: {يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه} [هود: 105] وقوله {لأحتنكن} معناه: لأميلن ولأجرن، وهو مأخوذ من تحنيك الدابة، وهو أن يشد على حنكها بحبل أو غيره فتنقاد، وألسنة تحتنك المال، أي تجتره، ومنه قول الشاعر:
تشكو إليك سنة قد أجحفت *** جهداً إلى جهة بنا فأضعفت
واحتنكت أموالنا وجلفت ***
ومن هذا الشعر، قال الطبري {لأحتنكن} معناه: لاستأصلن، وعبر ابن عباس في ذلك ب لأستولين، وقال ابن زيد لأضلن، وهذا بدل اللفظ لا تفسير، وحكم إبليس بهذا الحكم على ذرية آدم، من حيث رأى الخلقة مجوفة مختلفة الأجزاء وما اقترن بها من الشهوات والعوارض، كالغضب ونحوه، ثم استثنى القليل، لعلمه أنه لا بد أن يكون في ذريته من يصلب في طاعة الله، وقوله: {اذهب} وما بعده من الأوامر، هو صيغة افعل من التهديد، كقوله تعالى
{اعملوا ما شئتم} [فصلت: 40] و{تبعك} معناه في طريق الكفر الذي تدعو إليه، فالآية في الكفار وفي من ينفذ عليه الوعيد من العصاة وقوله {جزاء} مصدر في موضع الحال، والموفور المكمل {واستفزز} معناه استخف واخدع حتى يقع في إرادتك، تقول استفزني فلان في كذا إذا خدعك حتى تقع في أمر أراده، ومن الخفة قيل لولد البقرة فز ومثله قول زهير:
كما استغاث بسيئ فز غيطلة *** خاف العيون فلم ينظر به الحشك
و الصوت هنا: هو الغناء والمزامير والملاهي، لأنها أصوات كلها مختصة بالمعاصي، فهي مضافة إلى {الشيطان}، قاله مجاهد، وقيل معناه: بدعائك إياهم إلى طاعتك، قال ابن عباس: صوته، كل داع إلى معصية الله، والصواب أن يكون الصوت يعم جميع ذلك. وقوله {وأجلب} أي هول؛ والجلبة: الصوت الكثير المختلط الهائل، وقرأ الحسن: {واجلُب} بوصل الألف وضم اللام. وقوله {بخيلك ورجلك} قيل هذا مجاز واستعارة، بمعنى: اسع سعيك، وابلغ جهدك، وقيل معناه: أن له من الجن خيلاً ورجلاً، قاله قتادة، وقيل المراد: فرسان الناس ورجالتهم، المتصرفون في الباطل، فإنهم كلهم أعوان إبليس على غيرهم، قاله مجاهد وقرأ الجمهور {ورجْلك} بسكون الجيم، وهو جمع راجل، كتاجر وتجر، وصاحب وصحب، وشارب وشرب، وقرأ حفص عن عاصم: {ورجِلك} بكسر الجيم على وزن فعل، وكذلك قرأ الحسن وأبو عمرو بخلاف عنه، وهي صفة؛ تقول فلان يمشي رجلاً، غير راكب، ومنه قول الشاعر: [البسيط]
أنا أقاتل عن ديني على فرسي *** ولا كذا رجلاً إلا بأصحابي
وقرأ قتادة وعكرمة: {ورجالك}. {وشاركهم في الأموال} عام: لكل معصية يصنعها الناس بالمال، فإن ذلك المصرف في المعصية، هو خط إبليس، فمن ذلك البحائر وشبهها، ومن ذلك مهر البغي، وثمن الخمر، وحلوان الكاهن، والربا، وغير ذلك مما يوجد في الناس دأباً. وقوله {والأولاد} عام لكل ما يصنع في أمر الذرية من المعاصي فمن ذلك الإيلاد بالزنا، ومن ذلك تسميتهم عبد شمس، وعبد الجدي، وأبا الكويفر، وكل اسم مكروه ومن ذلك الوأد الذي كانت العرب تفعله، ومن ذلك صنعهم في أديان الكفر، وغير هذا، وما أدخل النقاش من وطء الجن وأنه تحبل المرأة من الإنس فضعيف كله. وقوله {وعدهم} أي منّهم بما لا يتم لهم، وبأنهم غير مبعوثين، فهذه مشاركة في النفوس، ثم أخبر الله تعالى أنه يعدهم {غروراً} منه، لأنه لا يغني عنهم شيئاً، وقوله {إن عبادي} الآية، قول من الله تعالى لإبليس، وقوله {عبادي} يريد المؤمنين في الكفر، والمتقين في المعاصي، وخصهم باسم العباد، وإن كان اسماً عاماً لجميع الخلق، من حيث قصد تشريفهم والتنويه بهم، كما يقول رجل لأحد بنيه إذا رأى منه ما يحب: هذا ابني، على معنى التنبيه منه والتشريف له، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص: «هذا خالي فليرني امرؤ خاله» والسلطان الملكة والتغلب، وتفسيره هنا بالحجة قلق، ثم قال تعالى لنبيه عليه السلام: {وكفى بربك} يا محمد حافظاً للمؤمنين، وقيماً على هدايتهم.


الإزجاء: سوق الثقيل السير، إما لضعف أو ثقل حمل أو غيره، فالإبل الضعاف تزجى، ومنه قول الفرزدق: [البسيط]
على زواحف تزجيها محاسير ***
والسحاب تزجى ومنه قوله تعالى {ألم تر أن الله يزجي سحاباً} [النور: 43] والبضاعة المزجاة هي التي تحتها لاختلالها أن تساق بشفاعة وتدفع بمعاون إلى الذي يقبضها، وإزجاء {الفلك} سوقه بالريح اللينة والمجاديف، و{الفلك} و{البحر} الماء الكثير عذباً كان أو ملحاً، وقد غلب الاسم على هذا المشهور، و{الفلك} تجري فيها. وقوله {لتبتغوا من فضله} لفظ يعم البصر، وطلب الأجر، في حج أو غزو ونحوه، ولا خلاف في جواز ركوبه للحج والجهاد والمعاش، واختلف في وجوبه للحج، أعني الكثير منه، واختلف في كراهيته للثروة وتزيد المال، وقد روي عنه أنه قال البحر لا أركبه أبداً، وهذا حديث يحتمل أنه رأي رآه لنفسه، ويحتمل أنه أوحي إليه ذلك، وهذه الآية توقيف على آلاء الله وفضله عند عباده. و{الضر} لفظ يعم خوف الغرق، والامتساك في المشي، وأهول حالاته: اضطرابه وتموجه. وقوله {ضل} معناه تلف وفقد، وهي عبارة تحقير لمن يدعي إلهاً من دون الله، والمعنى في هذه الآية أن الكفار إنما يعتقدون في أصنامهم أنها شافعة، وأن لها فضلاً، وكل واحد منهم بالفطرة يعلم علماً لا يقدر على مدافعته أن الأصنام لا فعل لها في الشدائد العظام، فوفقهم الله من ذلك على حالة البحر. وقوله {أعرضتم} أي لم تفكروا في صنع الله وقت حاجتكم إليه، وقوله {كفوراً} أي بالنعم. و{الإنسان} هنا للجنس، وكل أحد لا يكاد يؤدي شكر الله تعالى كما يجب، وقال الزجاج {الإنسان} يراد به الكفار، وهذا غير بارع. وقوله {أفأمنتم} الآية، المعنى {أفأمنتم} أيها المعرضون الناسون الشدة، حين صرتم إلى الرخاء أن يخسف الله بكم مكانكم من البر إذا أنتم في قبضه القدرة في البحر والبر، والحاصب العارض الرامي بالبرد والحجارة ونحو ذلك، ومنه قول الشاعر: [البسيط]
مستقبلين شمال الشام تضربنا *** بحاصب كنديف القطن منثور
ومنه قول الأخطل: [الكامل]
ترمي العصاة بحاصب من ثلجها *** حتى يبيت على العضاه جمالا
ومنه الحاصب الذي أصاب قوم لوط، والحصب: الرمي بالحصباء، وهي الحجارة الصغار، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي {يخسف} بالياء على معنى يخسف الله، وكذلك {يرسل} و{يعيد} و{يرسل} و{يغرق}، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ذلك كله بالنون، وقرأ أبو جعفر ومجاهد {تغرقكم} بالتاء أي الريح، وقرأ حميد {نغرقكم} بالنون حقيقة وأدغم القاف في الكاف، ورويت عن أبي عمرو وابن محيصن وقرأ الحسن وأبو رجاء {يغرّقكم} بشد الراء.
و الوكيل: القائم بالأمور، والقاصف الذي يكسر كل ما يلقى ويقصفه، و{تارة}، جمعها تارات وتير، معناه: مرة أخرى، وقرأ أبو جعفر: {من الرياح} بالجمع. والتبيع: الذي يطلب ثأراً أو ديناً، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
غدوا وغدت غزلانهم فكأنها *** ضوامن عزم لزهن تبيع
ومن هذه اللفظة قول النبي عليه السلام: «إذا اتبع أحدكم على ملي فليتبع» فالمعنى لا تحدون من يتبع فعلنا بكم ويطب نصرتكم.


{كرمنا} تضعيف كرم، فالمعنى: جعلنا لهم كرماً، أي شرفاً وفضلاً، وهذا هو كرم نفي النقصان، لا كرم المال؛ وإنما هو كما تقول: ثوب كريم، أي جمة محاسنه.
قال القاضي أبو محمد: رضي الله عنه: وهذه الآية، عدد الله تعالى فيها على بني آدم ما خصهم به من بين سائر الحيوان، والحيوان والجن هو الكثير المفضول، والملائكة هم الخارجون عن الكثير المفضول، وحملهم {في البر والبحر}، مما لا يصلح لحيوان سوى بني آدم أن يكون يحمل بإرادته وقصده وتدبيره {في البر والبحر} جميعاً، والرزق {من الطيبات}، ولا يتسع فيه حيوان اتساع بني آدم، لأنهم يكسبون المال خاصة دون الحيوان، ويلبسون الثياب، ويأكلون المركبات من الأطعمة، وغاية كل حيوان أن يأكل لحماً نياً، أو طعاماً غير مركب، والرزق:كل ما صح الانتفاع به، وحكى الطبري عن جماعة أنهم قالوا: التفضيل هو أن يأكل بيديه وسائر الحيوان بالفم، وقال غيره: وأن ينظر من إشراف أكثر من كل حيوان، ويمشي قائماً، ونحو هذا من التفضيل، وهذا كله غير محذق وذلك للحيوان من هذا النوع ما كان يفضل به ابن آدم، كجري الفرس، وسمعه، وإبصاره، وقوة الفيل، وشجاعة الأسد وكرم الديك، وإنما التكريم والتفضيل بالعقل الذي يملك به الحيوان كله، وبه يعرف الله عز وجل، ويفهم كلامه، ويوصل إلى نعيمه، وقالت فرقة: هذه الآية تقضي بفضل الملائكة على الإنس، من حيث هم المستثنون، وقد قال تعالى: {ولا الملائكة المقربون} [النساء: 172] وهذا غير لازم من الآية بل التفضيل بين الإنس والجن لم تعن به الآية، بل يحتمل أن الملائكة أفضل، ويحتمل التساوي، وإنما صح تفضيل الملائكة من مواضعٍ أخر من الشرع، وقوله تعالى {يوم ندعو} الآية، يحتمل قوله {يوم} أن يكون منصوباً على الظرف، والعامل فيه: فعل مضمر تقديره أنكر، أو فعل يدل عليه، قوله {ولا يظلمون} تقديره ولا يظلمون يوم ندعو. ثم فسره {يظلمون} الأخير، ويصح أن يعمل فيه {وفضلناهم}، وذلك أن فضل البشر يوم القيامة على سائر الحيوان بيّن، لأنهم المنعمون المكلمون المحاسبون الذين لهم القدر، إما أن هذا يرده أن الكفار يومئذ أخسر من كل حيوان، إذ يقول الكافر؛ يا ليتني كنت تراباً، ولا يعمل فيه {ندعو} لأنه مضاف إليه، ويحتمل أن يكون {يوم} منصوباً على البناء لما أضيف إلى غير متمكن، ويكون موضعه رفعاً بالابتداء والخبر في التقسيم الذي أتى بعد في قوله {فمن أوتي} إلى قوله {ومن كان}. وقرأ الجمهور {ندعو} بنون العظمة، وقرأ مجاهد {يدعو}، بالياء على معنى يدعو الله ورويت عن عاصم.
وقرأ الحسن {يُدعو} بضم الياء وسكون الواو، وأصلها يدعى ولكنها لغة لبعض العرب، يقلبون هذه الألف واواً، فيقولون افعو حبلو، ذكرها أبو الفتح وأبو علي في ترجمة أعمى بعد وقرأ الحسن: {كل} بالرفع، على معنى يدعى كل، وذكر أبو عمرو الداني عن الحسن، أنه قرأ {يدعى كل}, {أناس} اسم جمع لا واحد له من لفظه، وقوله {بإمامهم} يحتمل أن يريد باسم إمامهم، ويحتمل أن يريد مع إمامهم، فعلى التأويل الأول: يقال يا أمة محمد، ويا أتباع فرعون، ونحو هذا، وعلى التأويل الثاني: تجيء كل أمة معها إمامها، من هاد أو مضل، واختلف المفسرون في {الإمام}، فقال مجاهد وقتادة: نبيهم، وقال ابن زيد كتابهم الذي نزل عليهم، وقال ابن عباس والحسن: كتابهم الذي فيه أعمالهم، وقالت فرقة: متبعهم، من هاد أو مضل، ولفظة {الإمام} تعم هذا كله، لأن الإمام هو ما يؤتم به ويهتدي به في المقصد، ومنه قيل لخيط البناء إمام، قال الشاعر يصف قدحاً: [الطويل]
وقومته حتى إذا تم واستوى *** كمخة ساق أو كمتن إمام
ومنه قيل للطريق إمام، لأنه يؤتم به في المقاصد حتى ينهي إلى المراد وقوله: {فمن أوتي كتابه بيمينه} حقيقة في أن يوم القيامة صحائف تتطاير وتوضع في الأيمان لأهل الإيمان، وفي الشمائل لأهل الكفر، وتوضع في أيمان المذنبين الذين ينفذ عليهم الوعيد، فسيستفيدون منها أنهم غير مخلدين في النار، وقوله {يقرؤون كتابهم} عبارة عن السرور بها أي يرددنها ويتأملونها، وقوله {ولا يظلمون فتيلاً} أي ولا أقل ولا أكثر، فهذا هو مفهوم الخطاب حكم المسكوت عنه كحكم المذكور. كقوله تعالى {فلا تقل لهما أف} [الإسراء: 23] وكقوله {إن الله لا يظلم مثقال ذرة} [النساء: 40] وهذا كثير ومعنى الآية: أنهم لا يبخسون من جزاء أعمالهم الصالحة شيئاً، والفتيل هو الخيط الذي في شق نواة التمرة يضرب به المثل في القلة وتفاهة القدر، وقوله {ومن كان}، الآية، قال محمد بن أبي موسى: الإشارة بهذه إلى النعم التي ذكرها في قوله {ولقد كرمنا بني آدم} أي من عمي عن شكر هذه النعم والإيمان لمسديها، فهو في أمور الآخرة وشأنها {أعمى}.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل {أعمى} الثاني أن يكون بمنزلة الأول، على أنه تشبيه بأعمى البصر، ويحتمل أن يكون صفة تفضيل، أي أشد عمى، والعمى في هذه الآية هو عمى القلب في الأول والثاني، وقال ابن عباس ومجاهد قتادة وابن زيد: الإشارة بهذه إلى الدنيا، أي من كان في هذه الدار أعمى عن النظر في آيات الله وعبره والإيمان بأنبيائه، فهو في الآخرة أعمى؛ إما أن يكون على حذف مضاف، أي في شأن الآخرة، وإما أن يكون: فهو في يوم القيامة أعمى، على معنى أنه حيران، لا يتوجه له صواب، ولا يلوح له نجح، قال مجاهد {فهو في الآخرة أعمى} عن حجته.
قال القاضي أبو محمد: والظاهر عندي أن الإشارة ب {هذه} إلى الدنيا، أي من كان في دنياه هذه ووقت إدراكه وفهمه أعمى عن النظر في آيات الله، فهو في يوم القيامة أشد حيرة وأعمى، لأنه قد باشر الخيبة، ورأى مخايل العذاب، وبهذا التأويل، تكون معادلة للتي قبلها، من ذكر من يؤتى كتابه بيمينه، وإذا جعلنا قوله {في الآخرة} بمعنى في شأن الآخرة، لم تطرد المعادلة بين الآيتين. وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: {أعمى} في الموضعين، بغير إمالة، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم بخلاف عنه في الموضعين بإمالة، وقرأ أبو عمرو بإمالة الأول وفتح الثاني، وتأوله بمعنى أشد عمى، ولذلك لم يمله، قال أبو علي: لأن الإمالة إنما تحسن في الأواخر، و{أعمى} ليس كذلك لأن تقديره أعمى من كذا، فليس يتم إلا في قولنا من كذا، فهو إذاً ليس بآخر، ويقوي هذا التأويل قوله عطفاً عليه {وأضل سبيلاً} فإنما عطف {أضل} الذي هو أفعل من كذا على ما هو شبيه به، وإنما جعله في الآخرة {أضل سبيلا}، لأن الكافر في الدنيا يمكن أن يؤمن فينجو، وهو في الآخرة، لا يمكنه ذلك، فهو {أضل سبيلاً}، وأشد حيرة، وأقرب إلى العذاب، وقول سيبويه رحمه الله: لا يقال أعمى من كذا كما يقال ما أبداه، إنما هو في عمى العين الذي لا تفاضل فيه، وأما في عمى القلب فيقال ذلك لأنه يقع فيه التفاضل، وذكر مكي في هذه الآية، أن العمى الأول هو عمى العين عن الهدى وهذا بين الاختلال، والله المعين. وقوله {وإن كادوا ليفتنونك} الآية، {إن} هذه عند سيبويه هي المخففة من الثقيلة، واللام في قوله {ليفتنونك} لام تأكيد، و{إن} هذه عند الفراء بمعنى ما، واللام بمعنى إلا والضمير في قوله {كادوا} قيل هو لقريش وقيل لثقيف، فأما لقريش، فقال ابن جبير ومجاهد: نزلت الآية لأنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ندعك تستلم الحجر الأسود حى تمس أيضاً أوثاننا على معنى التشرع بذلك، قال الطبري وغيره: فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يظهر لهم ذلك، وقلبه منكر فنزلت الآية في ذلك قال الزجاج: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه «وما علي أن أفعل لهم ذلك والله تعالى يعلم ما في نفسي» وقال، ابن إسحاق وغيره، إنهم اجتمعوا إليه ليلة فعظموه، وقالوا له: أنت سيدنا ولكن أقبل على بعض أمرنا ونقبل على بعض أمرك، فنزلت الآية في ذلك فهي في معنى قوله تعالى:
{ودّوا لو تدهن فيدهنون} [القلم: 9]. وحكى الزجاج أن الآية قيل إنها فيما أرادوه من طرد فقراء أصحابه، وأما لثقيف، فقال ابن عباس وغيره: لأنهم طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخرهم بعد إسلامهم سنة يعبدون فيها اللات، وقالوا إنا نريد أن نأخذ ما يهدى لنا، ولكن إن خفت أن تنكر ذلك عليك العرب، فقل: أوحى الله ذلك إلي، فنزلت الآية في ذلك، ويلزم قائل هذا القول أن يجعل الآية مدنية، وقد روي ذلك، وروى قائلو الأقوال الأخر أنها مكية.
قال القاضي أبو محمد: وجميع ما أريد من النبي صلى الله عليه وسلم بحسب هذا الاختلاف قد أوحى الله إليه خلافه، إما في معجز وإما في غير معجز، وفعله هو أن لو وقع افتراء على الله إذ أفعاله وأقواله إنما هي كلها شرع. وقوله {وإذاً لاتخذوك خليلاً} توقيف على ما نجاه الله منه من مخالفة الكفار والولاية لهم، وقوله {لولا أن ثبتناك} الآية، تعديد نعمة على النبي صلى الله عليه وسلم، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية قال «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين» والركون: شد الظهر إلى الأمر أو الحزم على جهة السكون إليه، كما يفعل الإنسان بالركن من الجدران ومنه قوله تعالى حكاية. {أو آوي إلى ركن شديد} [هود: 80]، وقرأ الجمهور {تركَن} بفتح الكاف، وقرأ ابن مصرف وقتادة وعبد الله بن أبي إسحاق {تركُن} بضم الكاف، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يركن، لكنه كاد بحسب همه بموافقتهم طمعاً منه في استئلافهم، وذهب ابن الأنباري إلى أن معناه لقد كاد أن يخبروا عنك أنك ركنت، ونحو هذا ذهب في ذلك إلى نفي الهم بذلك النبي عليه السلام، فحمل اللفظ ما لا يحتمل، وقوله {شيئاً قليلاً} يبطل ذلك، وهذا الهم من النبي عليه السلام إنما كانت خطرة مما لا يمكن دفعه، ولذلك قيل {كدت}، وهي تعطي أنه لم يقع ركون، ثم قيل {شيئاً قليلاً} إذ كانت المقاربة التي تتضمنها {كدت} قليلة خطرة لم تتأكد في النفس، وهذا الهمّ هو كهمّ يوسف عليه السلام، والقول فيهما واحد وقوله {إذاً لأذقناك} الآية، يبطل أيضاً ما ذهب إليه ابن الأنباري، وقوله {ضعف الحياة وضعف الممات} قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك يريد ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات.
قال القاضي أبو محمد: على معنى أن ما يستحقه هذا المذنب من عقوبتنا في الدنيا والآخرة كنا نضعفه لك، وهذا التضعيف شائع مع النبي عليه السلام في أجره، وفي ألمه وعقاب أزواجه، وباقي الآية بين.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10